كشف حساب.. «ماعت»: 2024 شهد تدهوراً لحقوق الإنسان بالعالم العربي

كشف حساب.. «ماعت»: 2024 شهد تدهوراً لحقوق الإنسان بالعالم العربي
خريطة العالم العربي - أرشيف

سلّط تقرير جديد صادر عن مؤسسة ماعت للسلام والتنمية وحقوق الإنسان، الضوء على التدهور الحاد في أوضاع حقوق الإنسان في العالم العربي خلال عام 2024، في وقت تزداد فيه الأزمات السياسية والنزاعات المسلحة، وتتقاطع الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية في رسم ملامح مستقبل غامض للملايين من السكان.

جاء التقرير الذي حمل عنوان "حقوق الإنسان في الدول العربية 2024.. تقييم المواقف والتحديات في ظل استمرار النزاعات" كمحاولة تحليلية معمقة تتجاوز السرد التقليدي للانتهاكات، ليغوص في التفاصيل المرتبطة بالنصوص الدستورية ومدى تفعيلها على أرض الواقع. 

شمل التقرير 22 دولة عربية بأنظمتها المتنوعة بين ملكية وجمهورية، ومستوياتها المتفاوتة بين الاستقرار والانهيار.

انتهاكات ممنهجة والتزامات شكلية

تناول التقرير مدى التزام الدول العربية بالاتفاقيات الدولية، مثل اتفاقية حقوق الطفل (CRC) واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (CEDAW). 

ورغم تصديق معظم الدول على هذه المعاهدات، فإن المؤسسة الحقوقية أوضحت أن التنفيذ غالبًا ما يبقى شكليًا، مشيرة إلى أن 6 دول فقط تقدّمت بتقارير دورية منتظمة، من بينها تونس والأردن والمغرب.

وانتقد التقرير بشكل خاص الأداء الحقوقي في سوريا واليمن وليبيا، حيث يتسم المشهد بالدمار المؤسسي والتقاعس عن التعاون مع الآليات الدولية، ما جعل هذه الدول عرضة لانتقادات حادة من المنظمات الأممية.

سجون مكتظة وتنمية منهارة

وثّق التقرير نسبًا مقلقة تتعلق بالاحتجاز التعسفي، لافتًا إلى أن نحو 67% من السجناء في بعض الدول العربية يُحتجزون دون محاكمة، ما يشكل خرقًا صارخًا لحقوق المحاكمة العادلة، وتتجاوز هذه النسبة المعدلات العالمية بثلاثة أضعاف.

وفي سياق آخر، تناول التقرير فجوة التنمية بين دول الخليج، التي تواصل تعزيز مؤشرات الصحة والتعليم، وبين دول النزاع مثل اليمن والسودان، وكشف التقرير عن انهيار 80% من النظام الصحي اليمني، وحرمان أكثر من 2.4 مليون طفل من التعليم خلال عام واحد فقط.

وتطرّق التقرير إلى الأوضاع الكارثية التي تشهدها دول مثل السودان وسوريا وليبيا، موضحًا أن أكثر من 18 مليون شخص في السودان يعانون من الجوع الحاد، فيما تحوّلت مخيمات النزوح إلى مناطق خارجة عن القانون. 

وبلغ عدد النازحين واللاجئين السوريين 13.3 مليون، يواجهون انتهاكات مستمرة تشمل الحرمان من التعليم، وسوء المعاملة، والتجنيد القسري.

وأدان التقرير السياسات التمييزية لبعض الدول المستضيفة، التي تتعامل مع اللاجئين كونهم عبئًا أمنيًا وسياسيًا، وتورّط بعضها في عمليات إعادة قسرية للاجئين سوريين، في مخالفة مباشرة للقانون الدولي.

حرية التعبير تحت الحصار

أظهر التقرير تراجعًا كبيرًا في مؤشرات حرية الإعلام، مستشهدًا بتقرير "مراسلون بلا حدود" الذي وضع 11 دولة عربية ضمن أسوأ 20 دولة في العالم من حيث حرية الصحافة، وسجلت حالات حجب واسعة للمواقع، واعتقال صحفيين بتهم مثل "نشر أخبار كاذبة".

كما وثّق ماعت أكثر من 420 حالة اختفاء قسري خلال عام 2024، خاصة في سوريا ومصر والعراق، دون مساءلة أو تحقيق جدي، ما يعكس نمطًا ممنهجًا لقمع المعارضين.

وعرض التقرير انتهاكات صارخة ضد النساء، رغم التعديلات القانونية الإيجابية في بعض الدول مثل المغرب. 

وأوضح أن النساء في 7 دول لا يستطعن منح الجنسية لأبنائهن، ما يؤدي إلى ولادة أجيال بلا جنسية ولا حقوق. 

وأكد أن نحو ثلث النساء العربيات تعرضن للعنف الجسدي أو الجنسي، وسط غياب آليات فعالة للحماية.

تغيّر المناخ يولّد أزمات جديدة

سلّط التقرير الضوء على أثر التغير المناخي، مشيرًا إلى موجات نزوح غير مسبوقة في العراق بسبب الجفاف ونقص المياه، حيث نزح أكثر من 140 ألف شخص في 2024. 

وفي السودان، تسببت الفيضانات المتكررة في دمار واسع دون تدخل حكومي كافٍ، ما زاد من تعقيد الأوضاع الإنسانية.

واختتمت مؤسسة ماعت تقريرها بدعوة صريحة لإنشاء آلية عربية مستقلة تُعنى بمتابعة أوضاع حقوق الإنسان، تابعة للجامعة العربية، وتضم منظمات المجتمع المدني لضمان الشفافية والاستقلالية.

وشدّد التقرير على ضرورة فتح الأبواب أمام المراقبين الأمميين، وتقديم تقارير شفافة للآليات الدولية، والتعاون البنّاء مع المقررين الخاصين، كما دعا إلى دعم برامج إعادة تأهيل ضحايا العنف، ووضع تشريعات تحظر الزواج القسري وزواج الأطفال، وتُجرّم العنف ضد النساء.

واقترحت المؤسسة إنشاء صندوق عربي لدعم التعليم في مناطق النزاع، بالتعاون مع الأمم المتحدة والقطاع الخاص، لتأمين مستقبل تعليمي للأطفال المتضررين من النزوح والحروب.

الإنسان في مرمى النار

قال أيمن عقيل، نائب رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للاتحاد الإفريقي (الإيكوسوك الإفريقي)، إن المنطقة تقف أمام مفترق طرق حاسم فيما يتعلق بمدى التزام دولها بالاتفاقيات الدولية الأساسية، وبخاصة اتفاقية مناهضة التعذيب واتفاقية حقوق الطفل، وهما حجر زاوية في منظومة حقوق الإنسان العالمية. وأوضح أن أغلب الدول العربية قد صادقت على هذه الاتفاقيات، ما يعكس التزامًا شكليًا بالقانون الدولي، إلا أن الفجوة ما زالت شاسعة بين النصوص القانونية والتطبيق الفعلي.

وأوضح عقيل، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن التحدي الأكبر لا يكمن في توقيع الاتفاقيات أو التصديق عليها، بل في مدى مواءمة التشريعات الوطنية لمضامينها، وفي القدرة على إنفاذها بشكل فعلي. فعدد من الدول لا تزال قوانينها المحلية تفتقر إلى تعريفات دقيقة للانتهاكات مثل التعذيب، أو تضع استثناءات تجعل الالتزام الدولي بلا جدوى عملية. كما أن بعض الأجهزة الأمنية والقضائية لا تزال بعيدة عن المعايير الدولية، إما نتيجة لغياب التدريب الكافي، أو لغياب الإرادة السياسية للإصلاح الجذري.

وعن النزاعات المسلحة التي تعصف بدول مثل اليمن وسوريا والسودان، أكد عقيل أن آثارها تخطت حدود السياسة لتتحول إلى مآسي إنسانية طاحنة، تلتهم حياة المدنيين وتُغرق المنطقة في دوامات لا تنتهي من اللجوء والنزوح. في اليمن، ما يزيد عن 21 مليون إنسان باتوا يعتمدون على المساعدات الإنسانية، في ظل انهيار الخدمات الأساسية من صحة وتعليم ومياه نظيفة، وانتشار الأمراض والمجاعات في مناطق واسعة وفي سوريا، أصبحت الأرقام مفزعة؛ أكثر من 6 ملايين لاجئ خارج البلاد، و6.7 مليون نازح داخلها، جميعهم يعيشون أوضاعًا مأساوية في مخيمات تفتقر لأدنى مقومات الحياة الكريمة.

وفيما يتعلق بتحقيق أهداف التنمية المستدامة، خاصة في قطاعي التعليم والصحة، أوضح عقيل أن الدول العربية تعاني تفاوتًا صارخًا ففي الدول الغارقة في النزاعات، كالتي ذُكرت، أصبح تحقيق هذه الأهداف ضربًا من الترف السياسي، لا سيما أن البنى التحتية لهذه القطاعات قد دُمرت أو تُركت تنهار تدريجيًا في اليمن، مثلًا، ثمانون بالمئة من السكان بحاجة إلى خدمات صحية أساسية، في ظل نقص حاد في الأدوية والكفاءات الطبية، نتيجة النزاع المستمر، وفي سوريا، قُصفت المستشفيات.

ولمواجهة هذه التحديات، أكد عقيل، أن الشراكات الدولية تُعد ركيزة أساسية. فمن خلال التعاون مع منظمات مثل منظمة الصحة العالمية واليونسكو، يمكن للدول العربية أن تتلقى دعمًا فنيًا وماليًا يساعد في إنعاش قطاعي التعليم والصحة، كما أن الشراكات مع القطاع الخاص قادرة على خلق نماذج استثمارية مبتكرة تعيد الأمل إلى المناطق المنكوبة. لكنه شدد على أن الدعم الدولي يجب ألا يكون بديلًا عن إرادة سياسية محلية حقيقية تستهدف البناء من الداخل، وليس مجرد إدارة الأزمات.

وعن دور المجتمع المدني، أشار عقيل إلى أن هذه المؤسسات تشكل عين المجتمع وضميره، لكنها لا تزال تعاني تضييقًا في بعض الدول، سواء من خلال القيود القانونية أو من خلال غياب التمويل المستدام. وأكد أن توفير بيئة قانونية حاضنة لعمل منظمات المجتمع المدني، تضمن حريتها وتُحصنها من التدخلات، هو شرط أساسي لأي إصلاح حقيقي. كما شدد على ضرورة دعم هذه المؤسسات عبر بناء قدراتها الفنية، وتعزيز شراكاتها مع الحكومات والمنظمات الدولية، لتتحول من مجرد ناقلة للمشكلات إلى فاعلة في الحلول.

وحول فاعلية التقارير الحقوقية، قال عقيل، إن هذه الوثائق، حين تُكتب بمهنية وموضوعية، تصبح مرآة لا غنى عنها لصانعي السياسات. فهي تُسلّط الضوء على الانتهاكات وتكشف الخلل البنيوي، ما يتيح الفرصة لاتخاذ قرارات تستند إلى أدلة وتحليلات دقيقة. إلا أن الأثر الفعلي لتلك التقارير يظل مرهونًا بوجود آليات مؤسسية تضمن أخذ توصياتها بعين الاعتبار، من خلال الشفافية، المساءلة، والمشاركة المجتمعية. فمن دون ذلك، تبقى التقارير مجرد أوراق في أدراج مغلقة.

وختم أيمن عقيل تصريحه بالتأكيد على أن عام 2024 شكّل عامًا ثقيلًا على كاهل المواطن العربي، لكنه أيضًا كشف عن الحاجة الماسة لإعادة النظر في السياسات، وإعادة بناء العلاقة بين الدولة والإنسان على أسس من العدالة والكرامة، فالحلول ليست مستحيلة، لكنها تتطلب شجاعة في القرار، والتزامًا أخلاقيًا قبل أن يكون سياسيًا، المنطقة العربية، برغم كل الألم، لا تزال تملك فرصًا حقيقية للنجاة، شريطة أن يُمنح صوت الإنسان أولوية على صوت السلاح.

 

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية